ضوء بالغ الشدة(*)
إن تبئير ضوء قدرته تقارب قدرة 1000 سد مثل سدّ هوڤر(1)، في نقطة
حجمها كحجم نواة خلية، سيسرِّع الإلكترونات حتى سرعة
تقارب سرعة الضوء في مدة زمنية تبلغ فمتوثانية(2).
<A .G. مورو> ـ <D. أُمْستاتر>
إن حلم تقوية (تكثيف) الضوء قديم قدم الحضارة. إذ تروي الأسطورة أن أرخميدس باءر أشعة الشمس بمرآة ضخمة، مما أدى إلى إحراق الأسطول الروماني في سيراكوس عام 212 ق.م (قبل الميلاد). ومع أن هذه القصة خرافة، إلا أنه من المعروف أن يونانيا آخر، هو ديوكليس، اخترع أول عنصر تبئير بصري مثالي هو المرآة الإهليلجية (القطعية) عام 200 ق.م تقريبا. وبعد ألفي عام من ذلك، جُمعت المرايا والميكانيك الكمومي معا، لتصنيع أعلى المنابع الضوئية شدة وأكثرها مطواعية: الليزر.
يعدّ ليزر نوڤا Nova مثالا نموذجيا جيدا لليزرات القدرة العالية، وقد عَمِل في مختبر لورنس ليڤرمور الوطني بين عامي 1985 و 1999، وسمي كذلك لأن لمعانه يشبه لمعان نجم ينفجر. إن نوڤا من أضخم الليزرات التي بنيت حتى الآن، إذ يضم عشر سلاسل متوازية من المضخمات الليزرية، تشغل حيزا قدره 300 قدم، وتوجه مرايا مصنوعة من كتل زجاجية تزن كل منها 400 رطل حزم الليزر إلى أهداف بغية إحداث اندماج نووي وغير ذلك من التجارب. ولا يطلق ليزر نوڤا نبضاته أكثر من عدة مرات في اليوم، لتفادي التسخين المفرط. ومن الواضح أن تحقيق قدرته الفائقة الارتفاع تطلب الكثير من الطاقة.
غير أن القدرة ليست إلا معدل إعطاء الطاقة مع الزمن، لذلك هناك مقاربة أخرى للوصول إلى قدرة فائقة الارتفاع، هي إطلاق كمية متواضعة من الطاقة خلال مدة زمنية متناهية في الصغر. كان عرض نبضات ليزر نوڤا العادية واسعا نسبيا مقارنة بالليزرات الحالية السريعة جدا (كان قرابة 3 نانوثوان) وتطلبت كل نبضة عدة كيلوجول من الطاقة. وباستخدام نبضات عرضها أقل من ذلك بعشرة آلاف مرة نحصل على نوع جديد من الليزرات، يمكن أن توضع على طاولة(3)، وتعطي قدرة مماثلة لتلك التي يعطيها ليزر نوڤا [انظر: «ليزرات النبضات البالغة القصر: فوائد جمة في ومضة»، مجلة العلوم ، العددان8/9(2001)، ص 62، أو اضغط هذا الرابط
http://www.oloommagazine.com/Articles/ArticleDetails.aspx?ID=1419 ]. فمثلا تصل قدرة ليزر فائق القدرة، يعطي طاقة قدرها جول واحد في نبضة عرضها 100 فمتوثانية، إلى تريليون واط (10^13 Wأو 10 تيراواط)، وهذا أكبر من خرج جميع محطات توليد الطاقة في العالم مجتمعة.
يمكن لهذه الليزرات المدمجة أن تطلق مائة مليون طلقة (نبضة) في اليوم، وتستطيع أن تركز قدرتها في بقعة حجمها ميكرون واحد، معطية أعلى شدة ضوئية عرفت على الأرض. ويرافق كثافات القدرة الهائلة هذه، أعلى حقل (مجال) كهربائي أمكن إنتاجه، إذ تبلغ شدته تريليون ڤلط في السنتيمتر. إن تآثر ضوء ليزري شديد كهذا مع المادة، يُحدثُ الشروط الفيزيائية الحدية، التي يمكن أن توجد فقط في لب النجوم، أو في جوار ثقب أسود، حيث يوجد أعلى درجات الحرارة التي تصل إلى 10^10 كلڤن، وأشد الحقول المغنطيسية التي تصل إلى10^9 گاوس، وأعلى التسارعات التي تَكْبر تسارع الثقالة الأرضية بِـ 10^25 مرة.
ولما كانت كلفة هذه الليزرات بحدود مليون دولار، وليس بضع مئات من الملايين من الدولارات، فهي ستساعد، على إعادة «العلوم الكبيرة»(4)، إلى المختبرات الجامعية العيارية (القياسية) وإلى بلدان ذات ميزانية بحث محدودة. وقد بني العشرات من مثل هذه النظم في مختلف دول العالم في السنوات القليلة الماضية، للاستخدام في فروع فيزيائية عدة، بما فيها الفيزياء النووية والفيزياء الفلكية وفيزياء الجسيمات العالية الطاقة والنسبية العامة. وقد أدخل هذا الجيل الجديد من الليزرات تطبيقات عدة، مثل ليزر الأشعة السينية ومسرعات الجسيمات فوق المدمجة ultracompact والتصوير الشعاعي الطبي الدقيق. ويبدي هذا الجيل من الليزرات أملا كبيرا في إمكان استخدامها في المعالجة الإشعاعية وفي تحسين توليد الطاقة بالاندماج النووي.
السبيل إلى ذلك(**)
إن تطور ليزرات الطاولة في السنوات الخمس التي تلت اختراع الليزر عام 1960 كان على شكل سلسلة من الوثبات التقنية، حتى وصلت إلى قدرة مقدارها جيكاواط (10^9 واط). ثم تراخى التقدم في القدرة خلال العشرين عاما التالية. ولم تزد القدرة الأعظمية لليزرات الطاولة كثيرا. فكانت الطريقة الوحيدة لزيادة القدرة هي بناء ليزرات أكبر وأكبر. وكانت محاولة تشغيل الليزر، بعد الشدة الحدية، ستؤدي إلى تأثيرات لاخطية غير مرغوب فيها، في عناصره الضوئية، مما يفسد جودة الحزمة، حتى إنه يمكن أن يخرب مكوناتها. لكن في عام 1985 أمكن التغلب على مشكلة التخريب الضوئي، بالاستفادة من تقنية تضخيم النبضة المغردة chirped pulse amplification (CPA) ، التي اقترحتها مجموعة بحث يقودها أحدنا (مورو). عندئذ قفزت قدرة ليزرات الطاولة بمضروب يتراوح بين 10^3 و 10^5 مرة.
إن «تغريد» إشارة أو موجة، يعني إطالة أمدها الزمني. والخطوة الأولى، في تقنية تضخيم النبضة المغردة، هي إنتاج نبضة في هزاز، ثم مطها زمنيا بما يعادل 10^3 إلى 10^5 مرة مدتها الزمنية . وتُضعف هذه العملية شدة النبضة بالمقدار نفسه، مما يمكّن من تطبيق تقنيات تضخيم الليزر العادية على هذه النبضة. وفي النهاية، يمكن إعادة ضغط النبضة إلى زمنها الأصلي، بوساطة أداة عَتِيَّة شديدة، مثل زوج من شبيكات الانعراج في الخلاء، مما يزيد من قدرة النبضة بمقدار 10^3 إلى 10^5 مرة من القدرة الحدية للمضخم. ويبدأ المثال النموذجي بنبضة أولية تستمر 100 فمتوثانية وتملك طاقة قدرها 0.2 نانوجول. نمطُّها بمعامل قدره 10^4 حتى تصل إلى النانوثانية (مما يؤدي إلى تخفيض قدرتها من 2 كيلوواط إلى 0.2 واط). ثم نضخمها بمقدار عشر مراتب لتصبح طاقتها 2 جول وقدرتها 2 جيگاواط. وعند إعادة ضغط النبضة إلى 100 فمتوثانية تزداد قدرتها إلى 20 تيراواط. إن إرسال النبضة الأصلية، التي قدرتها 2 كيلوواط، من دون استخدام هذه التقنية، عبر مضخم طاولة، سيخرب المضخم ما لم نزد مساحة مقطعه بمعامل قدره 10^4 مرة، وننشر الحزمة على هذه المساحة. وهكذا فإن تقنية تضخيم النبضة المغردة، تجعل من الممكن استخدام المضخمات الليزرية التقليدية، مع البقاء دون مستوى حدوث التأثيرات اللاخطية.
يطلق ليزر الطاولة نبضات قدرتها تيراواط (10^12واط) عشر مرات في الثانية، ليصيب قطعة قماش رقيقة في مقدمة الصورة. أُخذت الصورة في ثلاثة تعريضات للضوء كي تغطي مجال الشدات الواسع.
لم يكن إتقان تقنية تضخيم النبضة المغردة بالسهولة التي نعرضها. إذ إن الأدوات النموذجية، التي تمط أو تضغط النبضات، لا تقوم بذلك بشكل خطي تماما، كما أن النتيجة ستفشل ما لم تتوافق صفات المغرِّد والضاغط توافقا مضبوطا.
وقد حدثت زيادة في الشدات الضوئية في السنوات الأخيرة الماضية، مع تطور البصريات المصحِّحة corrective optics، التي تسمح بتبئير الحزم الليزرية في بقع أصغر كثيرا مما في السابق. فأعطى هذا التطور، إلى جانب التحسينات الإضافية في تقنيات ضغط النبضات، نبضات لها أعظم شدة ممكنة من طاقة ضوئية معطاة.
لقد فتحت هذه الزيادة في القدرة والشدة، في التسعينات، آفاقا جديدة في نظم التآثر بين الضوء والمادة، عرف باسم البصريات النسبوية، حيث يسرِّع الضوء الإلكترونات إلى سرعة قريبة من سرعة الضوء. ولم يكن من الممكن الوصول إلى ذلك قبل تقنية تضخيم النبضة المغردة إلا بمنظومات ليزرية ضخمة وغالية الثمن.
البصريات النسبوية(***)
إن البصريات، هي دراسة كيفية استجابة الإلكترونات للضوء. وقد لا يتوافق هذا التعريف ظاهريا مع ما يعتقده الناس عن البصريات، كانعكاس الضوء عن المرايا، أو انكساره عن ماء بركة السباحة. لكن مع ذلك، فإن جميع الخواص الضوئية للمادة هي نتائج لكيفية تآثر الضوء مع الإلكترونات في المادة.
فالضوء موجة مؤلفة من حقلين كهربائي ومغنطيسي مترابطين يهتزان بشكل متزامن بترددات عالية جدا. ويهتز هذان الحقلان بشكل يعامد أحدهما الآخر، وكلاهما يعامد اتجاه انتشار الضوء وعندما يصادف إلكترون موجة ضوئية ذات قدرة عادية، فإن حقلها الكهربائي يطبق قوة على الإلكترون، فيجعله يهتز. ويكون هذا الاهتزاز باتجاه مواز للمجال الكهربائي وبنفس تردده، لكنه ليس من الضروري أن يكون متفقا بالطور مع الموجة الضوئية. إذ قد يكون اهتزاز الإلكترون متأخرا أو متقدما عن الموجة الضوئية بحسب ارتباطه بذرات المادة. وبدورها فإن سعات وأطوار هذه الاهتزازات الإلكترونية هي التي تحدد كيفية انتشار الموجة الضوئية عبر المادة، مضفيا على المادة خواصها الضوئية.
نظرة إجمالية إلى الضوء البالغ الشدة(****)
▪ مكَّنت طريقة لتضخيم الليزر اختُرعت في منتصف الثمانينات من ظهور جيل جديد من ليزرات الطاولة التي تعطي نبضات قصيرة جدا ذات شدة ضوئية بالغة.
▪ يتآثر الضوء الذي له تلك الشدة مع المادة بطرق جديدة فيعطي الإلكترونات دفعا مباشرا يوصلها إلى سرعة قريبة من سرعة الضوء، خلال فمتوثوان. وتسرع هذه الليزرات الجسيمات بمعدل يزيد بمقدار 000 10 مرة على معدل المسرعات القياسية (العادية).
▪ تشمل التطبيقات المحتملة التصويرَ الطبي العالي الميز، والمعالجة الإشعاعية الدقيقة الرخيصة، والاندماج النووي، والأبحاث في مجالات فيزيائية فرعية عدة.
تكون السعات، في البصريات التقليدية، صغيرة بما يكفي لأن تكون سرعات اهتزاز الإلكترونات صغيرة جدا دائما مقارنة بسرعة الضوء. لكن مع ابتكار شدات ليزرية تزيد على 10^18 واط لكل سنتيمتر مربع، قاربت سرعة اهتزاز الإلكترونات سرعة الضوء، ومن ثم ستغير التأثيرات النسبوية كيفية استجابة الإلكترونات للضوء بصورة جذرية.
أولا، ستزيد السرعة العالية من كتلة الإلكترون، مما يؤثر في سعة اهتزازاته وطورها. والأهم من ذلك أن الحقل المغنطيسي للموجة يبدأ بأخذ دور ملموس. إن الحقل المغنطيسي لا يطبق قوة على الشحنة الكهربائية إلا إذا كانت متحركة. وتكون هذه القوة ضئيلة في مجال البصريات التقليدية. لكن من أجل الإلكترونات التي تكون سرعة اهتزازها قريبة من سرعة الضوء فإنها ستعقص curl مسارات الإلكترونات معطية إياها زخما (اندفاعا) هائلا في اتجاه الحزمة الضوئية. ويؤدي هذا المفعول دورا مركزيا في البصريات النسبوية.
ثانيا، يمكننا عادة أن نهمل تآثر الضوء مع نوى الذرات، لأن الپروتونات أثقل من الإلكترونات بنحو 2000 مرة، وبذا فاهتزازها أضعف بكثير من اهتزاز الإلكترونات. لكن عند الشدات العالية يبدأ الضوء بتحريك الپروتونات بسرعات نسبوية عالية أيضا. ويمكن أن نطلق على ذلك النظام اسم البصريات النووية، نظرا للتنوع الكبير للعمليات النووية الممكنة الحدوث، كالاندماج النووي.
من «0 إلى 60» ميگاإلكترون ڤلط في المليمتر(*****)
إن أكثر التطبيقات وضوحا للقوة النسبوية الناتجة من حزمة ليزرية فائقة الشدة هو تسريع الجسيمات. فلمسرعات الجسيمات المشحونة استخدامات عديدة، من أنابيب الأشعة المستخدمة في التلفاز إلى معالجة السرطان، إلى دراسة القوى الأساسية في الكون. وما تشترك فيه هذه المسرعات هو أن الجسيمات جميعا، كالإلكترونات أو الپروتونات، يجري تسريعها بتأثير حقول كهربائية أو مغنطيسية. ومع أن الموجات الضوئية، في نظام البصريات التقليدية، يمكن أن يكون لها حقول كهربائية شديدة تقارب في شدتها الشدة الناتجة من وميض برقي، فإن هذه الحقول في حد ذاتها غير فعالة في تسريع الجسيمات، لأنها تهتز بشكل مستعرض. وبالمقابل عندما تصطدم نبضة ضوئية فائقة الشدة بالپلازما (غاز مكوّن من إلكترونات وأيونات موجبة)، فإنها تدفع الإلكترونات إلى الأمام بسرعة تقترب من سرعة الضوء كما ذكرنا آنفا.
لكن ذلك ليس نهاية القصة، فالأيونات الموجبة الشحنة للپلازما، بسبب كونها أثقل بآلاف المرات من الإلكترونات، فإنها ستتخلف متأخرة عنها. وسيؤدي انفصال الشحنات الموجبة عن السالبة إلى نشوء حقل كهربائي شديد، يمكن استخدامه لتسريع جسيمات أخرى. وتنتشر منطقة الحقل الكهربائي الشديد، خلال الپلازما، كموجة تقتفي أثر النبضة الضوئية، وستُسرِّع الجسيمات المشحونة كي تبلغ طاقات عالية في مجالات المخْر(5) الليزرية laser wake fields، تماما كما تكتسب الدلافين الطاقة عن طريق السباحة بالتوافق (بالتزامن) مع مخْر سفينة. وقد اقترح <T. تاجيما> و <M .J. دوسون> مسرعات مجال المخْر الليزرية للمرة الأولى عام 1979، عندما كانا في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس.
إن الليزرات الفائقة الشدة التي يمكن وضعها على طاولة، تعيد «العلم الكبير»
إلى المختبرات الجامعية النموذجية.
إن عملية تحويل الحقل الكهربائي المهتز للموجة الضوئية إلى حقل مخْر يتجه باتجاه واحد دائما تسمى التقويم rectification، بالمشابهة مع المقوِّمات في الإلكترونيات التي تحوِّل التيار المتردد (AC) إلى تيار مستمر (DC). تستخدم المسرعات التقليدية، مثل مسرع ستانفورد الخطي الذي يبلغ طوله 3 كيلومترات، مجاوبات معدنية لتقويم الموجات الراديوية، كي تدفع kick الشحنات بصورة متكررة على طول خط الحزمة (إن الموجات الراديوية هي موجات كهرمغنطيسية، مثل الضوء، لكن تردداتها أصغر منها بكثير وأطوال موجاتها أكبر)، وكان لا بد من أن يكون طول مسرع ستانفورد ثلاثة كيلومترات لبلوغ الطاقة المستهدفة للجسيمات، نظرا لمحدودية مجال التسريع في كل مجاوبة. ويمكن زيادة شدة الحقل باستخدام موجات ميكروية ذات أطوال موجية أقصر وشدات أعلى، لكن كلتا الخاصتين محدودة بالمجاوبة. إذ إن حجم المجاوبة يحدّ من طول الموجة، وتؤدي الشدة العالية إلى انهيار إلكتروني (شرارة) لجدران المجاوبة المعدنية. لكن مسرعات حقل المخْر الليزرية تتفادى هذه الحدود بإلغاء المجاوبة. لذا يمكن أن تسرع الجسيمات مباشرة، بالنبضات الفائقة الشدة، بنفس طريقة توليد الإلكترونات النسبوية من قبل الحزمة، مما يسمح بالاستغناء عن الپلازما.
في السنوات القليلة الماضية، ولدت مسرعات الإلكترونات والپروتونات العاملة بالليزر حزما ذات طاقات تزيد على 50 مليون إلكترون ڤلط، وهذا يقارب ما يعطيه مسرّع تقليدي (طوله بضعة أمتار) ذو مرحلة واحدة. غير أن المنظومة الليزرية تبلغ الطاقة نفسها بطول مليمتر واحد.