اثر القرآن في ضبط نفسية الانسان
يتمحور هذا الموضوع حول مفهومين اساسين :
اولهما : النفس البشرية ، وثانيهما :اثر القران في ضبطها وانضباطها
فالانسان مكون من ثلاث لطائف :" العقل ، والقلب ، والنفس " حيث ان دين المرء محكوم بعقله ، فلا دين لمن لا عقل له ، وبعض الافعال التي تقتضيها صورة الانسان " كالغضب والرضا ، والجرأة والخوف ،والجود والشح ، والسخط والقبول "محلها القلب ، وبالنفس يشتهي الانسان ما يستلذه من المطاعم والمشارب والمناكح
النفس البشرية ، قواها وأنواعها :
حديثنا اذن يهم النفس ، الهوية الحقيقية للانسان ، ومحتواها الحقيقي هو الذي يحدد وجهة الانسان نحوالسعادة ، ويبين مصيره المستقبلي
فالنفس في الانسان هي صورته وهواه ورغباته وشهوته ،وهي أثر من آثار الروح التي تمنح النفس القوة لأداء خواصها بأمر الله تعالي ـ كما ورد عن بعض السلف :"اذا دخلت الروح الجسد سمي نفسا ، وبها تحس النفس وتشعر وتبصر وتسمع وتشم وتتذوق "
فالنفس تري بالعين ، وتسمع بالأذن ، وتحس بواسطة مسام الجلد ،وتتذوق بواسطة الخلايا الموجودة في اللسان .هذه الأحاسيس والادراكات العقلية ـ بمجموعها غير المادية هي ما يسمي بالنفس الانسانية ، فاذا أخذ الله الروح وخلي الجسد منها ، انقطعت تلك الطاقة عن الاسلاك العصبية ، وفقدت تلك الحواس ، فماتت النفس التي عبر القرآن عنها في قوله تعالي " كل نفس ذائقة الموت "
( ال عمران :185)
فعن طريق النفس ينصرف الانسان الي امانيه المادية وشهواته الدنيوية ، فينحط بقدر اشتغاله في تلبية ذلك ، وانصرافه عما يسمو به من فضائل وطاعات ، أويعلو ويسمو بانصرافه للفضائل الايجابية ، فيرتقي بقدر اعمال نفسه في الدرجات.
وهذا يعني ويبين ان للنفس مراتب ، وأنها تخضع للتغيير والتبديل من حالة الي حالة ،
كما حقق القرآن ذلك في قوله تعالي :"ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم "
( الرعد :11)
فاذا نظرنا اليها في تقلباتها هذه وجدنها تمر عبر قوي أساسية تتمثل في:
قوة الشهوة ، وقوة الغضب ،وقوة العقل ، فالبالعفة تهزم الشهوة ،وبالشجاعة ينهزم الغضب ، وبالحكمة والحرص عليها يسمو العقل ، ولجميعها يحتاج الانسان ، فلو كان عقلا فقط لكان ملكا ، لكن الله خلق الانسان الذي يخطئ ويصيب ، ولو كان غضبا فقط لكان سبعا ، لكنه يحتاج إلي الشهوة ليعيش ويتناسل ، وحسب استخدام هذه القوي المذكورة تمر النفس الإنسانية بمراحل تتصف فيها بصفات ثلاث هي :
أولا : النفس اللوامة :
قال الله تعالي :" لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة "
( سورة القيامة : 1-2)
حيث أقسم سبحانه بيوم عظيم ، لتحقيق وقوعه وبيان هوله ، وإيقاظ النفوس النائمة الغافلة عنه ، فتصحو وتنتبه من سباتها
وقد ذكر الله تعالي ـ النفس اللوامة اثر قسمه بيوم القيامة للعلاقة الوثيقة بين مصير النفس وقيام ذلك اليوم ، حيث تقف فيه وحيدة دون نصير ، فهي نفس تفعل الخير وتحبه وتعمل المعصية وتكرهها ، نفس تعيش في داخلها صراعا بين الخير والشر
فالإنسان في بداية أمره إذا ارتكب ذنبا أو خطيئة ابتداء ، شعر في داخله بإحساس يؤنبه ، وتمني لو لم يفعله ، وإذا عاد إليه ثانية ضعفت خاصية الشعور بالذنب والخطيئة ، وانتقل صاحبها إلي مرحلة الميل إلي المعصية واستحسانها ، لتنتقل نفسه من لوامة إلي أمارة بالسوء
ثانيا :النفس الأمارة بالسوء :
حيث تميل النفس الي السوء وحب العصيان ، والغفلة عن الطاعة والعبادة ،ويطلق عليها : النفس الأمارة بالسوء ، نفس استحوذ عليها الشيطان وسيطر علي سلوكها وذوقها ، وقتل فيها الحياء والعفة . هذه النفس تعلل فجورها واستمرارها في المعصية بنسبة كل ما يفعله الإنسان إلي البيئة والآباء أو المجتمع ، قال الله تعالي :" وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا "
( الأعراف :28)
فتستكبر وتقع في الظلم لتقع في الخسران الابدى ,
قال الله تعالي " ان الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة" ( الشورى :45)
وسبب ذلك حدده الشارع في قوله تعالي :" لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " ( الفرقان :21 )
ثالثا : النفس المطمئنة :
نفس راضية استسلمت لخالقها برضي وقناعة ، لا تفعل الا ما تيقن لها صلاحه ، نفس تحقق لها الورع والاخلاص ، وسمت عن الدنيا وشهواتها واشتغلت عنها بعمارة عالم الاخرة الباقية الخالدة المحددة
في قوله تعالي :" فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين "
( السجدة :17)
وهي نفس استحقت الذكر والتمجيد في قوله تعالي ( يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي الي ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي ) ( الفجر :27-30)
مفهوم الضبط والانضباط :
الارتقاء بالنفس والنهوض بها ـ باعتبار طبيعتها التغييرية يحتاج الي ضبط وانضباط خاصين ، يستمدان أصولهما من كتاب الله ، الذي تحدث عن مراتب النفس ، وبينها من خلال سوره وآياته , وقبل تحديد ذلك نحتاج الي بيان مفهوم الضبط والانضباط
فالضبط هو لزوم الشئ وحبسه ، والضابط هو الذي يلازم ما يضبطه ، ويصبر نفسه معه حفظا وحزما ،والاضبط الذي يعمل بيديه جميعا ،
و " ضبط " فعل يتعدي بنفسه ، بمعني ان له فاعلا ومفعولا ،فالفاعل هو الضابط والمفعول هو المضبوط ، أي الموضوع والمجال الذي يقع فيه او به او عليه الفعل والعملية الضبطية . فاذا انصرف المعني الي ضبط النفس وانضباطها دل علي حبس النفس عن الشر والزامها بالخير مع الصبر عليها والحزم معها . وهو ما أطلق عليه علماء التربية بتزكية النفس في مقابل تدسيتها
وقد أقسم الخالق ـ سبحانه ـ أقساما سبعة في مطلع سورة الشمس علي ان المفلح من زكي نفسه والخاسر من دساها ، فقال :" والشمس وضحاها * والقمر اذا تلاها * والنهار اذا جلاها * والليل اذا يغشاها * والسماء وما بناها * والارض وما طحاها *ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها *وقد خاب من دساها "
( الشمس :1ـ10 )
والمقصود بالتزكية هنا : طهارة النفس أو تطهيرها وتنظيفها ، مخالفا للدس الذي هو كناية عن الاغراق في الوسخ والاوحال , ولا يعني ذلك ابدا التزكية مطلقا لما تعترضها من سلبيات ، مثل الاستعلاء والتكبر والترفع الذي نهي الله تعالي عنه ،
كما في قوله :" ألم تر الي الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء " ( النساء :49 )
والقرآن هو طب النفوس باعتباره روح الروح ونور البصيرة ، به يتحقق الضبط والانضباط ، كما قال الله تعالي :" وكذلك أوحينا اليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا "
( الشوري :52 )
والنور يضئ ويبين الأمراض ، ويهدي الي طريق الصواب ، ولا يتم ذلك الا بتحديد أمراض النفس المهلكة التي سطرها القرآن ، من أجل تقديم الدواء الناجح لها من آياته وسوره العظام